الأحد، 2 ديسمبر 2012

حكم الإسلام في الديمقراطية والتعددية الحزبية

 حكم الإسلام في الديمقراطية والتعددية الحزبية


    
 
 مآخذ وملاحظات على الانتخابات الديمقراطية
 
 
نجمل أبرز الملاحظات والمآخذ على الانتخابات الديمقراطية في النقاط التالية:

1) من شأن نظام الانتخابات في النظام الديمقراطي الحر، أنه يتيح الحرية لجميع الأحزاب والاتجاهات – الصالحة منها والطالحة – أن يعبروا عن مناهجهم وبرامجهم الانتخابية، ونظرتهم المستقبلية لطريقة حكم وإدارة البلاد، بالطريقة التي يرونها مناسبة وتشد إليهم أنظار الناس، كما لا يخلو أن تكون بعض هذه البرامج الانتخابية – وهي الأصل والأكثر – ترفع شعارات العلمنة والكفر بدين الله عز وجل.

كما يستلزم من جميع الأطراف والشخصيات المشاركة في العملية الانتخابية، أن تعترف بعضها ببعض، وبحق كل طرف أن يبدي من برامجه وأفكاره وعقائده ما يشاء ويريد!

وهذا أمر مما لا شك فيه أنه باطل، وبطلانه مما هو معلوم من ديننا بالضرورة، وقد تقدمت الإشارة إلى أن أصل التعامل مع المنكر – وبخاصة إن كان هذا المنكر يرقى إلى درجة الكفر – إنكاره وتغييره، وليس إعطاؤه الحرية في أن يتحرك لباطله وكفره كيفما يشاء، أو الاعتراف به وبشرعيته... حيث لا حرية للمنكر والإفساد في الإسلام.

قال تعالى: {كنتم خير أمة أُخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر} [آل عمران: 110]، فأمة الإسلام خير الأمم لقيامها بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر – وليس لانتمائها إلى عرق أو لون أو جنس أو لغة - ومتى تتخلى عن هذه الخاصية – خاصية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر – فإن ذلك من لوازمه أن ينفي عنها خاصية الخيرية والفضل التي خصها الله تعالى بها، لتصبح من شرار الأمم وفي آخرها مرتبةً وفضلاً!

وقال تعالى في صفات المؤمنين الموحدين: {الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور} [الحج: 41]، وهذا بخلاف ما يقسم عليه الديمقراطيون البرلمانيون – بمختلف اتجاهاتهم وانتماءاتهم – أنهم إن مكنوا في الأرض واستلموا السلطة فسوف يحافظون على المنكر، وسيسمحون لأحزاب المنكر والكفر بالوجود والعمل لمنكرها وباطلها [143]!

وفي الحديث، فقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (والذي نفسي بيده لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر، وليوشكن الله أن يبعث عليكم عقاباً منه فتدعونه فلا يستجيب لكم) [144].

وقال صلى الله عليه وسلم: (إن الناس إذا رأوا المنكر ولا يغيرونه، أوشك أن يعمهم الله بعقابه) [145].

وقال صلى الله عليه وسلم: (من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان) [مسلم].

فلا مناص للمؤمن من إنكار المنكر – ولو في القلب – إلا بالخروج من دائرة الإيمان؛ لأنه ليس وراء إنكار القلب إلا الرضى، والرضى بالكفر كفر، كما في الرواية الأخرى: (وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل).

2) من المآخذ كذلك على الانتخابات الديمقراطية، أنها تلزم جميع الأطراف المشاركة في العملية الديمقراطية بالاعتراف بشرعية حكم من يفوز بأكثر أصوات الناخبين، وأن له كامل الحق في حكم البلاد والعباد – ولو كان كافراً زنديقاً ومن أفسد الناس – بالدين والنظام الذي يريد!

وحاكم كهذا لا يجوز الاعتراف به – فضلاً عن العمل على تمكينه وتثبيت حكمه – وإن اختاره الناس كل الناس، فاختيار الشعب أو الأكثرية – في نظر الإسلام – لا يحيل الباطل حقاً ولا الحق باطلاً، ولا يمكن أن يصبغ على الباطل الشرعية؛ لأن الشعب ليس هو المقياس الذي به يُعرف الحق من الباطل، والحسن من القبيح، فمرد ذلك كله يجب أن يكون إلى كتاب الله تعالى وإلى سنة رسوله صلى الله عليه وسلم لا غير، قال تعالى: {ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلاً} [النساء: 141].

وأي سبيل أشد وأظهر على المسلمين من أن يحكمهم كافر معاند عدو لله ولرسوله وللمؤمنين؟!

وقال تعالى: {وإذا ابتلى إبراهيمَ ربُّه بكلمات فأتمهن قال إني جاعلك للناس إماماً قال ومن ذريتي قال لا ينال عهدي الظالمين} [البقرة: 124].

فالظالم – وبخاصة إن كان من الكافرين المشركين – لا ينال عهد الله تعالى في الإمامة والحكم والولاية، واختيار الشعب له أو لكونه ينتمي إلى بيت النبوة لا يسوغ له شرعاً أن يحكم البلاد والعباد...

ولو كان مدار الأمر على اختيار الشعب – أياً كان هذا الشعب وكان هذا الاختيار – لكان لمسيلمة الكذاب كامل الحق في الحكم والولاية وليس لأبي بكر الصديق رضي الله عنه؛ لأن الشعب وقتها أكثره ارتد عن دينه ووقف مع مسيلمة الكذاب في قتاله لأبي بكر رضي الله عنه ومن معه من المسلمين!

ولو أرادها أبو بكر رضي الله عنه في حينها ديمقراطية – على طريقة دعاة الديمقراطية – من باب احترام رأي وإرادة الأكثرية على مبدأ الانتخابات الديمقراطية الحرة لفاز بالحكم مسيلمة الكذاب بأكثر أصوات الشعب، ولحكم البلاد والعباد!

وهكذا نجد أن كثيراً من الصراعات بين الحق والباطل حصلت عبر التاريخ الإسلامي حُسمت عن طريق السيف، وليس عن طريق الديمقراطية ورد الأمر إلى الشعب أو إلى الأكثرية!

ولو كان الأمر مرده دائماً إلى حكم الأكثرية فأين يكون موقع الأنبياء – في نظر الديمقراطية – الذين لم يؤمن بهم إلا الرجل الواحد، ومنهم من لم يؤمن به أحد، وأين يكون موقع الطائفة المنصورة التي تصلح ما يفسده الناس، كما في الحديث الذي يرويه مسلم، قال صلى الله عليه وسلم: (طوبى للغرباء، قيل ومن الغرباء يا رسول الله؟ قال: ناس صالحون قليل في ناسٍ سوء كثير، ومن يعصيهم أكثر ممن يطيعهم).

فهم ناس قليل في ناسٍ سوء كثير، وأتباعهم – بدلالة النص – أقل ممن يعصونهم ويعارضونهم، ومع ذلك هم الطائفة المنصورة المرضية – في نظر الشرع – التي يجب تكثير سوادها، وأن تحكم البلاد والعباد بدين الله تعالى وشرعه.

3) تتضمن قوانين الانتخابات الديمقراطية إلزام جميع الأطراف برد النزاعات فيما بينها – وبخاصة منها من يحكم البلاد والعباد – إلى الشعب وإلى الأكثرية، وليس إلى الله وإلى رسوله!

فالأحزاب في حقيقتها وواقع أمرها هي متنافسة ومتنازعة فيما بينها على منصب حكم البلاد والعباد، وعلى الدين والقانون الذي ينبغي أن يحكم العباد والبلاد، والحكم الذي يفصل بينهم نزاعاتهم هذه هو الشعب الذي تم الاتفاق عليه كحكم أوحد لجميع ما يقع بينهم من نزاعات وخلافات، وكسيد لا تعلو سيادته سيادة!

وهذا – مما لا شك فيه – مخالف ومغاير للعقيدة الإسلامية التي تقرر أن السيادة العليا لله تعالى وحده، والتي تلزم جميع المسلمين بوجوب رد النزاع – أي نزاع – إلى الله ورسوله، كما في قوله تعالى: {فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر} [النساء: 59، وقال تعالى: {وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الله} [الشورى: 10].

4) إن الموافقة على القوانين الكفرية للانتخابات المتقدم ذكرها، تتضمن طاعة الكفار فيما هو كفر ومضاد لشرع الله تعالى...

وطاعة الكفار فيما هو كفر كفر أكبر مخرج عن الملة، قال تعالى: {وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم وإن أطعتموهم إنكم لمشركون} [الأنعام: 121].

أي لئن أطعتموهم في حل أكل الميتة إنكم لمشركون في تحليلكم لما حرم الله تعالى، ولطاعتكم إياهم فيما هو كفر وشرك، وإذا كان مجرد طاعتهم في حل أكل الميتة كفر وشرك، فمن باب أولى أن تكون طاعتهم في المبادئ الكفرية للانتخابات الديمقراطية – الآنفة الذكر – كفر وشرك أيضاً.

قال تعالى: {إن الذين ارتدوا على أدبارهم من بعد ما تبين لهم الهدى الشيطان سوَّل لهم وأملى لهم. ذلك بأنهم قالوا للذين كرهوا ما نزَّل الله سنطيعكم في بعض الأمر والله يعلم إسرارهم} [محمد: 25 - 26].

وفي قوله تعالى: {إن الذين ارتدوا... }، قال ابن كثير في التفسير 4/193: (أي فارقوا الإيمان ورجعوا إلى الكفر) اهـ.

قلت: هؤلاء كفروا وارتدوا عن دينهم بسبب أنهم قالوا للمشركين الذين كرهوا ما نزل الله تعالى من الدين والتوحيد سنطيعكم في بعض الأمر من باطلكم الذي أنتم عليه، وظاهر الآية يوحي بأنهم اقتصروا على القول ولم يتجاوزوه إلى العمل والسلوك ومع ذلك كفروا وارتدوا بما قالوا، فما يكون حكم وحال من يقول لهم سنطيعكم في كل الأمر، سنطيعكم في كل الباطل والشرك الذي تنص عليه الديمقراطية، ثم يتبع قوله هذا استجابة واقعية تتجسد في سلوك يبرهن عن صدق ما قاله لهم بلسانه... لا شك أنه أولى بالكفر والارتداد عن الدين ممن يطيعهم في بعض أمرهم، أو ممن يطيعهم في حل أكل الميتة بعد أن حرمها الله تعالى.

5) من شأن الانتخابات الحرة... أن تعرض المرشحين للاستشراف في طلب الإمارة والرياسة والزعامة، وقد يصل استشرافهم – كما حصل في بعض البلدان – إلى أن يشتروا أصوات الناس بالمال والموائد الشهية على مبدأ (طعمي التم بتستحي العين)، ولربما يصل استشرافهم في طلب الرياسة أحياناً إلى حد التقاتل والتضارب مع المخالفين والمعارضين لهم!

وهذا خلق مشين لا يقره الإسلام ولا يرضاه، كما في الحديث الذي أخرجه مسلم في صحيحه: (إنا والله لا نولي على هذا العمل أحداً سأله ولا أحداً حرص عليه).

وعند مسلم كذلك: (إنكم ستحرصون على الإمارة، وستكون ندامة يوم القيامة).

وقال صلى الله عليه وسلم: (من تكفل لي أن لا يسأل الناس لي شيئاً أتكفل له بالجنة) [146].

قلت: ومن يتأمل الحملات الانتخابية الديمقراطية، يجد أن المرشحين للعمل النيابي من أكثر الناس استشرافاً وإلحاحاً في سؤال الناس بأن يدلوا بأصواتهم لصالحهم!

فإن قيل: قد دلت بعض النصوص الشرعية كما في قصة يوسف عليه السلام وغيرها، على جواز سؤال الإمارة والعمل، فكيف يتم التوفيق مع ما تقدم؟

أقول: الأصل عدم جواز سؤال الإمارة والولاية لدلالة النصوص العامة الآنفة الذكر، إلا في حالات ضيقة واستثنائية خاصة، تنضبط بضوابط الضرورات، ومبدأ تقديم المصالح على المفاسد، لكن لا نرى جواز قياس ما يجري في الانتخابات الديمقراطية البرلمانية على هذا الجانب الخاص الاستثنائي المباح في الشرع، لتباين الحالتين من حيث الوصف، ومن حيث ضرورة الباعثة على طلب وسؤال الإمارة.

ولو تأملت سيرة الصحابة رضوان الله تعالى عنهم الذين اختارهم عمر بن الخطاب رضي الله عنه لتختار الأمة منهم خليفة للمسلمين [147]، نجد أنهم قد التزموا بيوتهم والصمت من دون أن يكلموا أحداً عن أنفسهم، أو يطلبوا من أحدٍ بأن يختار فلاناً دون فلان، وإنما تُرك الأمر إلى عبد الرحمن بن عوف – بعد أن أخرج نفسه منه – ليتحسس رأي الناس ورغبتهم فيمن يريدون ويختارون، فوجدهم لا يعدلون عن عثمان بن عفان رضي الله عنهم أجمعين.

وهذا – لا شك أنه - من جملة الأدلة التي تعضض الدلالة على المبدأ والخلق الإسلامي الآنف الذكر؛ وهو عدم الاستشراف في سؤال الآخرين الإمارة والولاية، فالإمارة عند السلف كانت تأتي ولا تؤتى، أما في زماننا فإنها تؤتى ولو على جثث الجماهير والشعوب المغلوب على أمرها!

6) من شأن الانتخابات الحرة إضافة إلى ما تقدم، أنها تعرّض المرشَّحين لأن يُزكوا أنفسهم على الله تعالى، فيذبحون أنفسهم بالتمادح والرياء، وذكر البطولات والإنجازات الكاذبة وغير الكاذبة!

وهذا من لوازمه – كما هو حال القوم – انتقاص الآخرين واحتقارهم، والتقليل من شأنهم وشأن ما يعملونه، فيبخسون الناس أشياءهم لينفردوا بأصوات الناخبين، ورضى الجماهير!

كما يضطرون للكذب على الناس والجماهير المغفلة – وذلك من متطلبات نجاح الدعاية الانتخابية – بإعطائهم المواعيد الكاذبة؛ فيمنونهم الأماني والحياة الرغيدة السعيدة لو صوتوا لهم وانتخبوهم دون غيرهم!

وهذا كله مما يُعلم بالضرورة من ديننا بطلانه، وأن الإسلام ينكره ويحرمه أشد التحريم، قال تعالى: {ألم ترَ إلى الذين يزكون أنفسهم بل الله يزكي من يشاء ولا يُظلمون فتيلاً} [النساء: 49]، وقال تعالى: {فلا تزكوا أنفسكم هو أعلم بمن اتقى} [النجم: 32].

وفي السنة، فقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إياكم والتمادح فإنه الذبح) [148].

وفي الحديث المتفق عليه: (من كان مادحاً أخاه لا محالة، فليقل: أحسب فلاناً، والله حسيبه ولا أزكي على الله أحداً، أحسبه كذا وكذا إن كان يعلم ذلك منه).

فقوله صلى الله عليه وسلم: (لا محالة)، يفيد أن الأصل عدم المدح والإطراء، ولكن إن اضطر المرء لمدح أخاه وكان لا بد له من ذلك، فليقل أحسبه كذا ولا أزكيه على الله... كما ورد في الحديث.

وقال صلى الله عليه وسلم: (من سمَّع الناس بعمله، سمع الله به مسامع خلقه وصغره وحقَّره) [149].

والنائب – كما هو ملاحظ في الأنظمة الديمقراطية - من أكثر الناس عرضة لتسميع الناس بعمله وإنجازاته ليكسب ودهم ورضاهم، ليضمن الفوز في الحملة الانتخابية القادمة... فهو عندما يخط بيانه الانتخابي الأول، فإنه أول ما يبدأ به التعريف عن نفسه، وعن شهاداته وإنجازاته، وخصائصه وصفاته!

7) مما يؤخذ أيضاً على نظام الانتخابات الحرة، أن عملية التصويت لاختيار من يحكم البلاد والعباد تقوم بها جميع شرائح المجتمع وفئاته، الصالح منها والطالح، وبغض النظر عن انتماءاتهم الدينية والعقدية، وأخلاقهم وسيرتهم الذاتية؛ فما يحق لأتقى الناس وأصلحهم وأعلمهم، يحق لأكفر الناس وأفجرهم وأجهلهم، فيستوي في ذلك العالم العامل المجاهد مع المرأة العجوز العقور الكافرة التي ربما لا تعي ما تقول، وكلاهما لهما نفس الأثر في اختيار من يحكم البلاد والعباد!

وهذا أمر معلوم من الدين بالضرورة بطلانه وفساده، لا يقول به إلا زنديق كافر أو جاهل أعمى البصر والبصيرة، قال تعالى: {هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون} [الزمر: 9]، وقال تعالى: {أفنجعل المسلمين كالمجرمين ما لكم كيف تحكمون} [القلم: 36]، وقال تعالى: {أفمن كان مؤمناً كمن كان فاسقاً لا يستوون} [السجدة: 18]، وقال تعالى: {مثل الفريقين كالأعمى والأصم، والبصير والسميع هل يستويان مثلاً أفلا تذكَّرون} [هود: 24].

لا شك أنهما لا يستويان مثلاً، لكن الديمقراطية والديمقراطيين يقولون بكل وقاحة أنهما يستويان مثلاً!

وقال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم لا يألونكم خبالاً ودُّوا ما عنتم قد بدت البغضاء من أفواههم وما تُخفي صدورهم أكبر} [آل عمران: 118].

ولا شك أن تفويض اختيار من يحكم البلاد والعباد – أهم القضايا وأخطرها على أمن وسلامة المسلمين – للكفار والزنادقة والمرتدين الملحدين هو من اتخاذهم بطانة من دون المؤمنين، وهو من أعظم ما أحدث في ديار المسلمين.

قيل لعمر رضي الله عنه: إن ههنا رجلاً من نصارى الحيرة لا أحد أكتب منه ولا أخط بقلم، أفلا يكتب عنك؟ فقال: لا آخذ بطانة من دون المؤمنين.

وروي أن أبا موسى الأشعري استكتب ذمياً، فكتب إليه عمر رضي الله عنه يعنِّفه وتلا عليه هذه الآية: {يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم}.

قال القرطبي في التفسير 4/179: (وقد انقلبت الأحوال في هذا الزمان، باتخاذ أهل الكتاب كتبةً وأمناء، وتسودوا بذلك عند الجهلة الأغبياء من الولاة والأمراء) اهـ.

قلت: كيف بزماننا حيث أصبحوا – تحت شعار الديمقراطية وغيرها – هم الأمراء والولاة في ديار المسلمين، ولهم الكلمة في تحديد من يحكم البلاد والعباد!

8) من شأن الانتخابات الحرة أنها تفرز أشخاصاً إلى سدة الحكم لا تمثل رغبة وإرادة أكثر الناس، وهذا بخلاف ما يزعمون وينعقون، وبرهان ذلك:

أن الساحة الديمقراطية من شأنها أن تفرز أحزاباً عديدة، كلها تطمع وتعمل للوصول إلى الحكم، ولو افترضنا أن خمسة أحزاب – والباب مفتوح لمن يريد – رشحت نفسها للانتخابات:

أ) الحزب الأول حصل على نسبة 30% من أصوات الناخبين.

ب) الحزب الثاني حصل على نسبة 25 %من أصوات الناخبين.

ج) الحزب الثالث حصل على نسبة 20 % من أصوات الناخبين.

د) الحزب الرابع حصل على نسبة 15 % من أصوات الناخبين.

هـ) الحزب الخامس حصل على نسبة 10 % من أصوات الناخبين.

فالحزب الذي يخول – حسب قانون الانتخابات الحرة – أن يحكم البلاد والعباد هو الحزب الذي حصل على 30 % من أصوات الناخبين، بينما 70 % من الناخبين – بحكم تفرق أصواتهم بين الأحزاب الأخرى – لا يريدونه وهو لا يمثلهم، وإن أضيف إلى هؤلاء عدد القاعدين عن الانتخابات أصلاً الذين قد يزيد عددهم أضعاف الذين صوتوا وانتخبوا علمنا بالضرورة أن هذا الحزب الحاكم لا يمثل أكثرية الشعب، ولا نصفه، ولا حتى ربعه، وأن قولهم بأن الديمقراطية تفرز حكم الأكثرية هو كذب صريح يضحكون به على الشعوب المغفلة!

9) في الانتخابات الديمقراطية تتدخل عدة عوامل خارجية غير قانونية وأخلاقية، تجعل من نتائج الانتخابات غير منصفة ودقيقة، ولا تمثل الرغبة الحقيقية لأكثرية الشعب كما يزعمون، منها:

أ) عامل المال وأثره الواضح على نجاح الحملة الدعائية للانتخابات، فبقدر ما يُصرف على الحملة الدعائية من مالٍ بقدر ما تكون قوية وناجحة، ويكون النجاح حليف المرشَّح، وإن كان في الحقيقة لا يمثل تطلعات وآمال أكثرية الشعب!

وفي كثير من البلدان الفقيرة التي تحصل فيها مثل هذه التجارب، يلعب المال وأكياس الأرز والطحين دوراً فاعلاً في إنجاح شخص دون شخص، أو حزب دون حزب، حيث يشترون أصوات الناس بثمن بخس مستغلين فقرهم وحاجتهم للعيش!

ب) عامل القرابة أو القبيلة، حيث أن الولاء القبلي أو العائلي – وبخاصة في البلدان العربية – يحتم على أفراد القبيلة – ولو بالإكراه أو الحياء أحياناً – أن يصوتوا لصالح ابن قبيلتهم وعشيرتهم، وإن كان في الغالب لا يمثل تطلعاتهم وآمالهم!

ج) العامل الإعلامي الذي يلعب دور الساحر لعقول وأذهان الناس، حيث كلما توفرت قدرة إعلامية عالية تخدم المرشح، وتصنع منه – خلال الحملة الانتخابية – بطلاً ورمزاً دونه كل الرموز والأبطال – وإن كان في الحقيقة غير ذلك وهو على خلافه – بقدر ما يكون النجاح حليف هذا المرشح!

علماً أن شخصيات أخرى عديدة قد تكون أفضل منه بكثير، وأكثر تمثيلاً للناس ومصالحهم وتطلعاتهم، لكن لعدم وجود الإعلام القوي لديهم الذي يغطي متطلبات الحملة الانتخابية، ويعرِّف الناس عليهم جيداً لا يفوزون في الانتخابات!

د) تدخل الأنظمة والساسة وأصحاب المصالح والقوى والنفوذ باستغلال نفوذهم وقوتهم لإنجاح شخص دون شخص، أو حزب دون حزب لتحقق مصالحهم من خلال هذا الحزب والاتجاه دون الآخر، وهذا أمر يدركه من عنده أدنى دراية بأساليب اللعبة الانتخابية الديمقراطية!

ع) الانتخابات الديمقراطية تمكّن قوى الطغيان العالمية أن تتدخل في شؤون وسياسة أي بلد – وبخاصة إن كانت من ذوي الدول الفقيرة أو الضعيفة - عن طريق وضع ثقلها المادي والسياسي والإعلامي، وربما العسكري في إنجاح فريق دون آخر، أو حزب دون آخر الذي من خلاله تفرض هيمنتها وإرادتها على البلاد والعباد، وتؤمن لنفسها المصالح والمكاسب الاقتصادية والسياسية والثقافية التي تسعى من أجلها!

والشاهد مما تقدم أن الإنسان في الأنظمة الديمقراطية – حتى في أمريكا وبلاد الغرب – غير حر، وهو مأسور لكثير من المؤثرات والعوارض الخارجية التي تجعله يسير في غير الاتجاه الذي يريد، وبالتالي فإن الأنظمة والتشريعات والنتائج تأتي غير ممثلة لطموحاته الحقيقية التي يريد... وهذا يعني أن الديمقراطية غير محققة – وهي غير واقعية – حتى في دار منشأها في أوربا وأمريكا!

إلى هنا نكون قد انتهينا من بيان أهم المآخذ على نظام الانتخابات الديمقراطية الحرة، لنشرع – مستعينين بالله تعالى - في بيان أهم المزالق والمآخذ التي يقع بها النائب المرشَّح بعد دخوله قاعة البرلمان وممارسته لمهام العمل النيابي التشريعي.



[142] انظر مجلة المجتمع، عدد 916، 11 شوال 1409 ه، الوحدة والتعددية في العمل الإسلامي، للدكتور محمد أبو الفتح البيانوني.

[143] من عجائب القوم وكذبهم أنك لو سألتهم لماذا تشاركون في العمل النيابي الديمقراطي، يقولون لك بكل وقاحة: أنهم قرروا المشاركة من أجل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر!

[144] صحيح سنن الترمذي: 1762.

[145] أخرجه أحمد وغيره، صحيح الجامع: 1974.

[146] صحيح الترغيب والترهيب: 807.

[147] حيث جعل عمر بن الخطاب رضي الله عنه مرد الخلافة بعده شورى بين ستة أنفار وهم: عثمان بن عفان، وعلي بن أبي طالب، وطلحة بن عبيد الله، والزبير بن العوام، وعبد الرحمن بن عوف، وسعد بن أبي وقاص رضي الله عنهم أجمعين.

[148] أخرجه ابن ماجه، صحيح الجامع: 2674.

[149] أخرجه الطبراني، والبيهقي، وأحمد، صحيح الترغيب: 23.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق